فصل: مسألة تفسير قول الله: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة تفسير قول الله: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}:

في تفسير قول الله: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] وسئل مالك: عن قول الله: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] ما تفسيره؟ أن يدعى قبل أَن يَشهد، أو يكون قد أشهد، فقال: إنما ذلك بعدما أشهدوا، وأما قبل أن يشهدوا فأرجو أَن يكون في سعة، إذا كان ثَم من يشهد، وليس كل أمر يجب على الرجل أن يشهد عليه من الأمور أُمور لا يجب على الرجل أن يشهد فيها.
قال محمد بن رشد: قول مالك: قول الله عز وجل: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282]. معناه: إذا دعي لأدَاء الشهادة بعدما أشهد، وأما إذا دعي ليشهد فهو في سعة إذا كان ثم من يشهد- صحيح، ومن أهل العلم من ذهب إلى أنه واجب على كل من دعي إلى الشهادة أن يجيب دُعي إلى أن يستحفظ الشهادة أو يؤدي ما حفظ، لقول الله تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282]، وليس ذلك بصحيح؛ لأن الشاهد لا يصح أن يسمى شاهداً إِلا بعد أن يكون عنده علم بالشهادة، وأما قبل أن يعلم فليس بشاهد، ولا يدخل تحت قوله: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] إلا من هو شاهد. وهذه المسألة قد مضى القول عليها في أول نوازل سحنون من كتاب الشهادات وتمامه في رسم شهد على شهادة ميت من سماع عيسى منه.
وقوله: وليس كل أمر يجب للرجل أن يشهد عليه- صحيح؛ لأن مَن دعي أن يشهد على أمر مكروه فيكره له أن يشهد عليه فقد روي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأبي النعمان بن بشير بن سعد؛ إذ أشهده على أنه نَحل ابنه النُّعمان غلاماً له، لَمَّا أَخبرهُ بأنه خصَّ ابنه بنحلة الغلام، دون سائر ولده: «أَشْهِدْ غَيْرِي فَإنِّي لاَ أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ»، ومن دعي إلى أن يشهد على حرام فلا يحل له أن يشهد عليه، ومن دعي إلى أن يشهد على أمر جائز أو مستحب أو واجب، فالإجابة عليه فرض من فروض الكفاية، وبالله التوفيق.

.مسألة تقوى الله:

في تقوى الله قال: وسمعت مالكاً يذكر أنَّ رجلاً أمر رجلَاَ بتقوى الله، ثم قال له: إنما هو لحمُك ودمُك.
قال محمد بن رشد: هذا بين لا إشكال فيه؛ لأنه إن اتقى الله سلم من عذاب الله وإن لم يتقه خاف على نفسه وبدنه في الآخرة عقاب الله، وبالله التوفيق.

.مسألة ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:

فيما كان عليه أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال مالك: بلغني أن أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانوا ينزعون الدلاء في سقي النخل على ثمره، ثمرة كل دلو.
قال محمد بن رشد: في هذا بيان ما كان عليه أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من التقليل من الدنيا وامتهانهم فيها بإجارة أنفسهم للخدمة والعمل، فذلك جائز لا عيب فيه، ولا غضاضة على من فعله، فقد قالت ابنة شعيب لأبيها في موسى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} [القصص: 26]. وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ نَبِيِّ إلاَ وَقَدْ رَعَى غَنَماً. قِيلَ لَهُ: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَهِ؟ قَالَ: وَأَنَا». واستئجار الرجل الرجلَ على سقي النخل كلُ دلو بدرهم إذا لم يواجبه على عدد معلوم، يشبه كراء الدار مشاهرة، له أن يترك متى شاء، ولرب النخل أَن يمنعه من التمادي على السقي إذا شاء ما لم ينقده، فإن نقده عدداً من الثمر لزمهما جميعاً بمنزلة إذا واجبه على عدد معلوم. وبالله التوفيق.

.مسألة الإغلاظ على أهل الجور من الأمراء بالقول:

في الإغلاظ على أهل الجور من الأمراء بالقول وذكر مالك: أن الحجاج قال لعبد الله بن عمر في كلام قاله له عبد الله بن عمر إلا يكون ضرب عنقه، فقال له عبد الله: إذن لسقرك الله به في جهنم على رأسك.
قال محمد بن رشد: قول عبد الله بن عمر للحجاج فيما كان هم به من قتل عبد الله بن عمر: إذن لسقرك الله به في جهنم على رأسك- يدل على ما هو معلوم من مذهب عبد الله بن عمر أن القاتل لا توبة له وأن الوعيد لاحق به؛ لأنه أخبر أنه لو فعل لسقره الله به في جهنم على رأسه، ولم يستثن توبةً ولا غيرها. وقد روي أنه سُئل عن القاتل عمداً هل له من توبة؟
قال: ليستكثر من شرب الماء البارد. يريد: أنه لا توبة له، وهو مذهب ابن عباس وأبي هريرة وزيد بن ثابت.
روي أن سائلاً سأل ابن عمر وابن عباس وأبا هريِرة عمن قتل مؤمناً متعمد، أَهل له من توبة؟ فكلهم قال: هل يستطيع أن يحييه؟ هل يستطيع أن يبتغي نَفَقاً في الأرض أو سُلًماً فِي السمَاءِ؟
وإلى هذا ذهب مالك رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لأنه روي عنه أن إمامة القاتل لا تجوز وإن تاب، ويؤيد هذا المذهب ما روي من أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «كُلُّ ذَنْبِ عَسَى اللَّه أَنْ يَعْفُوَ عَنْه إلَّا مَنْ مَاتَ كَافِراً أَوْ قَتَلَ مُؤمِناً مُتَعَمِّداً» وذلكَ والله أعلم لأن القتل يجتمع فيه حق لله تعالى وحق للمقتول المظلوم. ومن شروط صحة التوبة من مظالم العباد تحللهم أو رد التباعات عليهم. وهذا ما لا سبيل للقاتل إليه إلا بإذن يدرك المقتول قبل موته، فيعفو عنه ويحلله من قتله إياه طيبةً بذلك نفسه.
وذهب جماعة من الصحابة ومن بعدهم إلى أن القاتل في المشيئة، توبته مقبولة، فممن رُوي ذلك عنه: ابن عباس، وأبو هريرة، وعلي بن أبي طالب ومجاهد وغيرهم، ولكلا القولين وجه من النظر باختلاف أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك، فقلما تجدهم يختلفون، إلا فيما تتعارض فيه الحجج وتتكافأ فيه الأدلة، فينبغي لمن لم يواقع هذا الذنب العظيم أن ينتهي عنه ويستعيذ بالله منه مخافة ألا يصح له منه متاب، فيحق عليه سوء العذاب ويناله شديد العقاب. ولمن أوقعه أن يتوب إلى الله ويستغفره، ولا ييأس من رحمة الله، {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].
وكان ابن شهاب إذا سئل: هل للقاتل توبة يتعرف منه هل قتل أم لا؟ ويطاوله في ذلك، فإن تبين له منه أنه لم يقتل، قال: لا توبة له، وإن تبين له منه أنه قتل، قال: له توبة، وهو من حسن الفتوى.
ومن توبة القاتل أن يعرض نفسه على أولياء المقتول فإن أقادوا منه وإلا بذل لهم الدية، وصام شهرين متتابعين، أو أعتق رقبة إن كان واحداً أو أكثر من الاستغفار، ويستحب له أن يلازم الجهاد، ويبذل نفسه لله، وهذا كله مروي عن مالك، وفيه دليل على الرجاء عنده في قبول التوبة.
واختلف أيضاً في القاتل إذا أُقيد منه هل يكون القصاص كفارة أم لا؟ على قولين وقد مضى في كتاب المقدمات القول في أحكام القاتل في الآخرة وفي الدار الدنيا مستوفى، وبالله التوفيق.

.مسألة الحاكم لا يلزمه القعود للحكم إلا في ساعات من النهار:

في أن الحاكم لا يلزمه القعود للحكم إلا في ساعات من النهار قال مالك: سألني صاحب السوق في شغله بأمر الناس وقضائه بينهم، فكأنه رآه من أشغال أهل المدينة بعمله، فقال: إني ما أكاد أن أفرغ، قال مالك: ما ذلك عليك، اقعد للناس في ساعات من النهار، وإني أخاف عليك أن تكثر فتخطئ، ولم يرَ ذلك عليه، أن يتعب نفسه للناس نهاره إلا ساعة واحدة.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو ممَّا لا اختلاف فيه، إذ لا يلزمه الحمل على نفسه بموالاة الجلوس، وربما كان ذلك سبباً إلى أَن يكل ذهنه فيُخطئ في حكمه، فالحسن أن يجم نفسه في ساعات من النهار، فإن ذلك ممَّا يعينه على ما هو بسبيله، وله أَن يخرج إلى ضيعته يستريح بذلك المرة بعد المرة، ويقيم فيها اليوم واليومين على ما قاله ابن القاسم في رسم الجامع من سماع أَصبغ من كتاب تضمين الصناع، وبالله التوفيق.

.مسألة التحليل من المظالم:

في التحليل من المظالم وسُئل مالك: عن قول ابن المسيب في فعله: إِنَّه كان يقول: لا أحلل أحداً، فقال: ذلك يختلف، فقلت: يسلف الرجل الذهب فيهلك، ولا وفاء له. قال: أرى أن يحلله، فإِنَّه أفضلِ عندي فإن الله يقول: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18] وليس كل ما قال أحد وإن كان له فضل يتبع على ما قال. قيل له: فالرجل يظلم الرجل، قال: لا أرى ذلك، هو مخالف عندي للأول، يقول الله: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ} [الشورى: 42] ويقولُ: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] فلا أرى أن يجعل في حل من ظلم.
قال محمد بن رشد: اختلف في التحليل من التباعات والظلامَات على ثلاثة أَقوال: أَحدها: إِن ترك التحليل منها أَولَى وهو مذهب سعيد بن المسيب هذا. والثاني: إِن التحليل منها أفضل. والثالث: تفرقة مالك بين التباعات والظلامات، فوجه القول الأول أَن التباعات والظلامات يستوفيها صاحبها يوم القيامة من حسنات من وجبت له عليه، على ما جاء من أن الناس يقتصُّ بعضهم لبعض يوم القيامة بالحسنات والسيئات وهو في ذلك الوقت مفتقر إلى زيادة حسناته، ونقصان سيئاته، بما له من التباعات والظلامات التي حلَّل منها، وهو لا يدري هل يوازي أجره في التحليل ما يجب له من الحسنات في الظلامات والتباعات، ويزيد عليها أو ينقص منها، فكان الحظ ألَّا يحلل منها. ووجه القول الثاني: أن التحلل إحسان للمحلل عظيم، وفضل يسديه إليه جسيم، ينبغي عليه المكافأة من الله عزَّ وجلّ، وهو تعالى أَكرم من أن يُكافئه بأقل مما وهب، فإنَّه عزَّ وجلّ يقول: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ} [التغابن: 17] فهذا القول أظهر والله أعلم.
ووجه تفرقة مالك في هذا بين الظلامات والتباعات ما استدلَّ به قوله: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} [الشورى: 42] فرأَى ترك تحليل المظالم للظالم عقاباً له، هو عليه محمود، لما في ذلك من الِإخافة له، والردع بذلك عن أن يعود إلى مثله، وأما في الدنيا فالعفو والصفح عن الظالم أولى من الانتصار منه بأخذ الحق منه في بدنه أو ما له لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] وقوله: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] وقوله: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى: 43] ولا يعارض هذا قوله عَزَّ وجلّ: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39]؛ لأن المدحة من الله تعالى، وإن كانت متوجهة بهذه الآية لمن انتصر من بغي عليه بالحق الواجب، ولم يتعد في انتصاره منه وكان مُثاباً على ذلكَ، لما فيه من الردع والزجر، فهو في العفو والصفح أَعظم ثواباً، بدليل قوله بعد ذلك: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]. وقيل:
إِنَّ الآية نزلت في الباغي المشرك، وينبغي أن يكون معنى الآية في الانتصار ممَّا فيه حد لله، لا يجوز العفو عنه. والله أعلم.

.مسألة أَمر الرجل بالمعروف من يعلم أَنَّه لا يطيعه:

في أَمر الرجل بالمعروف من يعلم أَنَّه لا يطيعه وسئل مالك: عن الرجل يأمر الرجل بالمعروف، وهو يعلم أَنَّه لا يطيعه، وهو ممَّن لا يخاف، مثل الجار والأخ، قال: لا أرى به بأساً، ولا يشبه ذلك إذا رفق به، فإِنَّ الله ربما نفع بذلك. يقول الله: {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]. قال مالك: بلغني أن رجلَاَ من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقع بالشام، وأنه انهمر في الخمر فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فكتب إليه: {حم- تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر: 1- 2] إلى قوله: {الْمَصِيرُ} [غافر: 3]، قال: فتركَ ذلك الرجل الخمر فتاب ونزع عنها.
قال محمد بن رشد: قوله لا أرى به بأساً، معناه: جائز له أن يفعله. وإن ظنَّ أنَّه لا يطيعه، إذ لعلَّه سيطيعه فينفع الله بذلك، لاسيما إذا رفق به، إذ لا يشبه الرفق في ذلك ترك الرفق فيما يرجوه من أن ينتفع بقوله. واستدلَّ على استحباب الرفق في ذلك بقول عمر، مع الذي بلغه عنه أنه انهمر في الخمر من أصحاب النبيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إذ وعظه بما كتب له من كتاب الله، ولم يُغلظ عليه بالقول. وفي قوله: لا بأس أن يأمره بالمعروف وإن علم أنه لا يطيعه نص منه على أَنَّه لا يلزمه ذلك، وهو صحيح؛ لأنَّ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثلاثة شرائط: شرطان في الجواز، أحدُهما: أن يكون ممَّن يعرف المعروف من المنكر، إذ لا يأمن إذا كان جاهلا بذلك أن يأمر بمنكر أو ينهَى عن معروف. والثاني: أن يأمن، أن يغلب على ظنّه أن نهيه عمَّا نهى عنه من المنكر، لا يؤدي إلى منكر أعظم منه، مثل أن ينهى عن شرب الخمر، فيؤدّي إلى قتل نفس، وشرط ثالث في الوجوب بعد حصول شرطي الجواز، وهو أن يعلم أَو يغلب على ظنه أَن أمره بالمعروف مؤثر في فعله، وداع إليه، وأن نهيه عن المنكر مُزيلٌ له أَو لبعضه، فإذا علم ذلك أو غلب على ظنه، وجب عليه الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإن لم يعلم ذلك ولا غلب على ظنه، لم يجب ذلك عليه، وكان في سعة من تركه. وهذا هو معنى قول مالك في هذه الرواية: لا أرى به بأساً حسبما بيناه. وقد مضى في رسم الأقضية الثالث من سماع أشهب من كتاب السلطان تمام القول مستوفى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وبالله التوفيق.

.مسألة تقبيل العبد أو المولى ليد مولاهُ أو سيّده:

في تقبيل العبد أو المولى ليد مولاهُ أو سيّده وسُئل مالكٌ: عن الرجل يقدم من السفر فيتناوَل غلامه ومولاه يده فيقبلها. قال: ترك ذِلك أحب إِليّ، وذكر له حديث سالم شيخ يقبل شيخاً فأَنكره إنكاراَ شديداً، قال: فَإِيَّاكم مثل هذه الأحاديث أن تهلكوا فيها.
قال محمد بن رشد: إنَّما كره مالك أن يقبل يد الرجل مولاه أو غلامه في سلامه عليه عند قدومه من سفر أو شبهه، وإن كان له عليه حق صار به دونه في الكفاءة والمرتبة والحرمة، فقال: ترك ذلك أَحبّ إليّ من أجل أنه قد يكون أكرم منه عند الله إن كان أَتْقَى منه لله بنص قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] إذ قد جمعته وإيَّاه حرمة الِإسلام، فصار بذلك وليّاً له، وأخاً فيه. قال عزَّ وجلّ: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]. والنّبي عَلَيْهِ السَّلَامُ كان أحق أن تكون التحية له بتقبيل يديه، إذ هو سيد الخلق أجمعين، ورسول رب العالمين، الشافع يوم القيامة فيِ المُذنِبِين، لو كان ذلك ممَّا يُستحق في الشرع، فإذا لم تكن التحية له إلاَّ بما شرعه الله من السلام، وجب أن يستوي في ذلك الفاضل والمفضول، والعبد وسيده، والمولَى ومولاه.
وِإنَّما ينبغي أن يفعل ذلك المولى بمولاه، والعبد بسيده، فلا ينهاه إذا لم يكن مسلماً. فقد روي عن صفوان بن عسال المرادي، قال: «قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ... لا تقل نبيّ، إنَّه لو سمعه كان له أربعة أعين، فأَتيا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسألاه عن تسع آيات بيّنات، فقال لهم: لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئاً وَلاَ تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حًرّمَ اللَّهُ إِلّا بِالْحَقِّ وَلَا تَمْشُوا بِبَرِيءٍ إلَىٍ السُّلْطَانِ لِيَقْتُلَهُ، وَلَا تَسْحَرُوا، وَلَا تأكلُوا الرِّبا، وَلَا تَقْذِفُوا مُحْصَنَةً، وَلَا تُوَلّوا الْفِرَارَ يَوْمَ الزَّحْفِ، وَعَلَيْكُم خَاصَّة الْيَهُودِ أن لَا تَعْدُوا يَوْمَ السَّبْتِ. فَقَامُوا فَقبَّلُوا يَدَهُ. وفي بعض الأحاديث: فَقَبَّلُوا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، فَقَالَا: نَشْهَد أَنكَ نَبِيُّ اللَّهِ وَإِنَّا نَخَافُ إِنِ اتَّبَعْنَاكَ أَنْ تَقْتُلَنَا الْيَهُودُ». قال الترمذي: وهو حديث حسن صحيح.
وأَما حديث سالم الذي أَنكره إذ ذكر له، فهو ما روي أن عبد الله بن عمر كَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَر، قَبَّلَ سَالِماً، وَقَالَ: شَيْخٌ يُقَبِّلُ شَيْخاً. وإنَّما ذكر له والله أَعلم، لما جرى من ذلك القبلة، لا على سبيل الحجة في جواز تقبيل العبد والمولى يد سيده أو مولاه لافتراق المعنى في ذلك؛ لأن تقبيل العبد أو المولَى يد سيده أو مولاه على سبيل التعظيم، وتقبيل الرجل لابنه الكبير وما أشبهه من ذوات المحارم من النساء، على سبيل المحبة والمودة والحَنان والرحمة، كتقبيل الطفل الصغير، فذلك بخلاف تقبيل الرجل يد سيده ومولاه، وِإنَما أَراد عبد الله بن عمر بقوله: شيخ يقبل شيخاً الِإعلام بأن ذلك جائز على هذا الوجه، لا على وجه مكروه.
وقد جاء ذلك عن النبيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ. روي عن عائشة من روايةِ محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة عنها قالَ: «قَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الْمَدِينَةَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِي فَأَتَاهُ فَقَرَعَ الْبَابَ فَقَامِ إِلَيْهِ رَسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُريَاناً يَجُر ثَوْبَهُ وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُهُ عُرياناَ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ، فَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَهُ». وَقَالَ فيه الترمذي: إِنَّه حديث حسن غريب لا نعرفه من حديث الزهري من غير هذا الوجه. وجاء أيضاً «عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنهُ اعْتَنَقَ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَقبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ حِينَ قَدِمَ مِنَ الْحَبَشَةِ». فيجب أن يُتَأَوَّل ما روي عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من تقبيله لزيد بن حارثة، وما روي عن عبد الله بن عمر من تقبيله لابنه سالم، أنَها إِنَّما كانت فيما بين العينين أَو الرأس، أو الخدين، لا في الفم. ولما كان الأظهر في القبلة إِذا أطلقت أنها في الفم، أنكر مالك حديث سالم في تقبيل عبد الله بن عمر إِيَّاه، وقوله: شيخ يقبل شيخاً، وقال: إِيَّاكم أَن تهلكوا في مثل هذه الأحاديث، فنهى أَن يُتحدث بها، تحذيراً منه أَن يحملها الجاهلُ على ظاهرها فيستبيح بها أَن يقبل الرجل وليهُ أو قريبه أَو صديقه أَو ولده الكبير في فمه، فيتراقى ذلك في الناس إلى ما لا يصلح، وهذا من نحو ما مضى في رسم جاع فباع امرأته من سماع عيسى من كتاب المحاربين والمرتدين، لا يروي لنا أَحد هذه الأحاديث: «إنَّ اللَّه خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورتِهِ» أَو نحو هذا من الأحاديث، وأعظم أن يتحدث بها أَحد أو يرويها لِما يخشى من أَن يحملها الجاهل على ظاهرها من تشبيه الله بخلقه فيهلك بذلك، ومالك يكره للرجال المعانقة والقبلة فيما بين العينين، ويرى ما جاء عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ في ذلك خاصاً له. روي عن علي بن يونس المدني قال: كنت جالِساً عند مالك، فإِذا سفيان بن عُيينة بالباب يستأذن، فقال مالك: رجل صاحب سنة، أدخلوهُ، فدخل فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. قال مالك: وعليكم السلام يا أَبا محمد ورحمة الله وبركاته، فصافحه مالك، وقال: يا أَبا محمد لولَا أنها بدعة لعانقناك، فقال سفيان بن عيينة: عانق خيرٌ منك ومنا النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ. قال مالك: جعفر، قال: نعم، قال: ذلك حديث خاص يا أبا محمد، ليس بعامٍّ. قال سفيان: ما يعم جعفر يعمنا إذا كنا صالحين، وما يخصه يخصنا، أَفَتَأذن لي أَن أُحدث في مجلسك؟ قال: نعم، يا أَبا محمد. قال: حدَّثني عبد الله بن طاوس عن أَبيه، عن عبد الله بن عباس قال: «لَمَّا قَدِمَ جَعْفَرُ بن أبي طالبِ من الحبشة، اعتَنَقَهُ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبلَ بين عَيْنَيْهِ، وَقَالَ: جَعْفَر أَشْبَهُ النَّاس بِي خَلْقاً وَخُلُقَاً يَا جَعْفَرُ مَا أَعْجَبَ مَا رَأَيْتَ بِأَرْض الْحَبَشَةِ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذَا سَوْدَاءُ عَلَى رَأسِهَا مِكتَلٌ فِيهِ بُرٌّ فَصَدَمَهَا رَجَلٌ عَلَى دَابَّتِهِ فَوَقَعَ مِكْتَلُهَا وَانْتَشَرَ بًرُّهَا فَأَقْبَلَتْ لِتَجْمَعَهُ مِنَ التُّرَابِ، وَهِيَ تَقُولُ: وَيْل لِلظالِم من دَيَّانِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَيْلٌ لِلظَّالِم مِنَ الْمَظْلوم يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيْلٌ للَظّالِم إِذَا وُضِعَ الْكُرْسِيُّ لِلْفَصْل يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقالَ النبيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا يُقَدسُ اللَهُ أُمَّة لَا يَأْخَذُ ضَعِيفُهَا مِنْ قَوِيِّهَا حَقَّهُ غَير متمتع.» ثمَّ قَالَ سُفْيَانُ: قَدِمْتُ لِأصَلِّيَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأُبَشِّرَكَ بِرُؤْيَا رَأَيْتُهَا، ثمَّ قَالَ مَالِكٌ: قَامَتْ بِشَارَتُكَ خَيْرٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، قَالَ سُفْيَانُ: رَأَيْتُ كَأَنَّ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْشَقَّ فَأقْبَلَ النَّاسُ يَهرعون من كُلِّ جِانبٍ وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَردّ بِأَحْسَنِ رَدٍّ، قالَ سُفيَانُ: فَأُتِيَ بِكَ واللَّهِ أعْرِفُكَ فِي مَنَامِي كَمَا أعْرِفُكَ فِي يَقَظَتِي، فَسًلّمْتَ عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَيْكَ السلاَمَ، ثُمَّ رَمَى في حَجْرِكَ بِخَاتَمٍِ، ثُمّ نَزَعَهُ مِنْ أصْبُعِهِ، فَاتَّقِ اللَّهَ فيمَا أعْطَاكَ. فَبكى مالك بُكَاءً شديداَ. قال سفيان: السلام عليكم. قال: خارج الساعة؟ قال: نعم، فودَّعه مالك وخرج. وأمَّا القُبلة للرجل في الفم من الرجل، فلا رخصة فيها بوجه ولا على حال إن شاء اللَه.

.مسألة ضحك النبيّ عليه السلام سُروراً بما أعطى الله أمته:

في ضحك النبيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ سُروراً بما أعطى الله أمته قال مالك: «وَبَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَهِ تَبسَّمَ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: مَا يضحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَال: لِهَذَا المُؤمِنِ يُصِيبُهُ مَا يُحِبُّ فَيُشْكَرُ اللَّهَ فَيَكُونُ خَيْراً لَهُ».
قال محمد بن رشد: يشهد بصحة هذا الحديث قول الله عزَّ وجلّ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ} [التوبة: 128]... الآية، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ: «لِكُلِّ نَبيٍّ دَعْوَةٌ يَدْعُو بِهَا فَأُرِيدُ أَن أختَبِئَ دَعْوتِي شَفاعَةً لأِمَّتِي». والله الموفق.

.مسألة مشي عيسى ابن مريم على الماء وإحيائه الموتى:

في مشي عيسى ابن مريم على الماء وإحيائه الموتى قال مالك: بلغني أن عيسى ابن مريم قال له رجل من أصحابه: إنك تمشي على الماء، فقال له عيسى: وأَنت إِن كنت لم تخط خطيئة مشيت على الماء، فقال له الرجل: مَا أَخطأت خطيئة قط. فقال له عيسى: فامش، فمشى ذاهباً وراجعاً، حتى إذا كان ببعض البحر إِذا هو قد غرق، فدعا عيسى فأخرج، فقال له عيسى: ما لك ذهبت ورجعت فغرقت؟ أَليس زعمت أنك لم تخط خطيئة قط؟ فقال: ما أخطأتَ شيئاً قط، إِلَّا أَنَّه وقعِ في قلبي أَنِّي مثلك.
قال مالك: وبلغني أن عيسى ابن مريم أتته امرأتان فقالتا له: ادع الله يخرج لنا أَبانا فإِنَّه مات ونحن غائبتان عنه، قال: فأين قبره؟ فأشارتا إليه في قبره، فدعا فأُخرج، فإذا هو ليس هو، قال: ثم دلَّتاه على قبر آخر فخرجَ فإذا هو هو، والتزمتاه، ثم قالتا له: اتركهُ يكون معنا. قال: كيف أتركه وليس له رزق يعيش فيه؟
قال الِإمام القاضي: مشيُ عيسى ابن مريم على الماء معجزة من معجزاته، وكذلك مشي الرجل من أَصحابه على الماء بحضرته إلى أن غرق بما حدث به نفسه من معجزاته أَيضاً؛ لأن ما كان من الآيات الخارقة للعادات في زمن نبي من الأنبياء، لبعض أصحابه فهو معدود في جملة معجزاته، والخطيئة التي غرق من أَجلها صاحب عيسى ابن مريم هي مما قد يجاوز الله لهذه الأمة بفضله عن مثلها. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَجَاوَزَ اللَّهُ لأِمَّتِي عَمَّا حًدّثْت بِهِ نَفْسَهَا مَا لَمْ يَنْطِقْ بِهِ لِسَانٌ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ يَدٌ». ويروى الحديث: مَا حَدَّثَتْ بِهِ نَفْسَهَا بالنصب، وَمَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهَا بِالرفع، فمن رواه ما حدثت به أنفسُها بالرفع، قال: الخواطر التي ببعض الرجل من غير قصد منه إِليها ولا اختيار لها، مثل قوله عزَ وجلّ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16]، وبدليل ما روي «أن أَصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَحَدَنا يُحَدِّثُ نَفْسَه بِالشَيْءِ؛ لأن يَكُونَ حُمَمةَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَقْدِرْ مِنْكُم إِلَّا عَلَى الْوَسْوَسَةِ وَالْحَمْدُ لَلّهِ الَّذِي رَدَّ أَمْرَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ». قالوا: وإن كان في الحديث: إن أحدنا يحدث نفسه، وإنَا نحدث أنفسنا، فإن جواب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهم بقوله: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَقْدِرْ مِنْكُم إِلَّا عَلَى الْوَسْوَسَةِ» هو المعتمد، وفيه الحجة لقوله فيه: ذلك صريح الإيمان ومحض الإيمان، أي: إن التوقِي من أَن ينطق بما غلب على نفسه من خطوات الشيطان أو يعتقده- هو من صريح الإيمان الذي يثاب عليه فاعله.
ومن روى: ما حدثت به أنفسها بالنصب، قال: معناه: ما يهمُ به العبد باختياره من المعاصي أن يفعله، ثم لا يفعله، فتجاوز الله لأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك.
واستدلَّ من ذهب إلى هذا بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تجاوز الله، والتجاوز لا يكون إلَّا عمَّا كان للإنس فيه كسب باختياره له.
وبما رُوي عن النبيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّه قال: «قَالَ اللًهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِحَسَنَةِ فَاكْتبُوهَا عَلَيِهِ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا عَشْراً وَإِذَا هًمّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَلَا تَكْتُبُوها عَلَيْهِ فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا بِمِثْلِهَا وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ خَشْيَتِي فَاكْتُبُوهَا حَسَنَةً». وقد رأيت لبعض أهل الأصول من المتكلمي: أَن الهموم بالسيئة خطية، وأَرى هذا القائل ذهب في الحديث إلى رواية من رواه حدثت به أنفسُها بالضم، والله أَعلم. وأما إحياء عيسى الموتى فليس من فعله، ولا داخلٌ تحت قدرته، وِإنَّما هو أمر كان يفعله الله دليلَاَ على صدقه فيما يُخبر به عن الله، ومصداق ذلك في كتاب الله عزَّ وجلّ: {وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} [المائدة: 110]، وذلك بين أيضاً في هذا الحديث، وقوله فيه: فدعاه فأخرج، فلم يكن له في ذلك إلّاَ إجابة الدعوة، وبالله التوفيق.

.مسألة فضائل عمر بن عبد العزيز:

قال مالك: جاء مسلمة بن عبد الملك إلى عمر بن عبد العزيز وهو مريض يموت، فاستأذن عليه، فمنع، فألقى بنفسه، فقعد، ثم قال: لا أبرح حتى يؤذن لي، فأذن له فدخل، وقيل له: أقل المكث، فقال: لقد لَيَّنْتَ لنا قلوباً كانت قاسية، وجعلت لنا في الصالحين ذكراً.
قال مالك: وبلغني أن هشام بن عبد الملك قال له: إنا لا نعيب أبانا ولا نضع شرفنا في قومنا، فقال له عمر: ومن أعيبُ ممن عابه القرآن؟
قال مالك: كتب عمر بن عبد العزيز: إن من قطع به من الجزية، فأسلفوه من مال المسلمين، قال مالك: وبلغني أن عمر بن عبد العزيز كان يغاضب بعض أهله، فكان له نساء، فكان يأتيها في ليلتها فيبيت في حجرتها وتبيت هي في بيتها، فقيل له: أفترى ذلك؟ فقال: نعم، وكذلك في كتاب اللَّه: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34] قال مالك: بلغني أن عمر بن عبد العزيز ترك أن يخدم، فكان يدخل بعد المغرب، فيجد الخوان موضوعاً عليه منديل، فيتناوله فيقدمه كذا إليه فيكشف المنديل ويأكل، ويدعو عليه من كان معه.
قال محمد بن رشد: هذا كله بيِّن لا إشكال فيه، فيه الإِقرار لعمر بن عبد العزيز بالفضل، وتواضعه هو في تناوله أخذ طعامه هو بيده، وعدله بين نسائه فيما يلزمه فيه العدل بينهن من المبيت في بيت كل واحدة منهن في ليلتها وإن كان واجداً عليها.
وقد مضى في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم من كتاب النكاح ما يلزمه في العدل بينهن مما لا يلزم، وفي رسم الأقضية الثاني، ورسم الطَّلاق من سماع أشهب فيه. فلا معنى لذكره هنا، وفيه اهتباله بالوصية لأهل الذمة بأن يسلف من احتاج منهم من بيت مال المسلمين، معناه: إذا كان شيء يرجوه. وأما من افتقر منهم واحتاج ولم يكن له شيء يرجوه، فالواجب أن ينفق عليه من بيت مال المسلمين. وباللَّه التوفيق.

.مسألة افتراق أحوال الناس في عبادتهم وأَعمالهم:

في افتراق أحوال الناس في عبادتهم وأَعمالهم قال: وحدثنا ابن القاسم عن مالك عن يحيى بن سعيد قال: يقال: رُبَّ نائم مغفور له، وقائم مشكور، ودائب مضيع، وساع لغيره.
قال محمد بن رشد: النائم المغفور له هو الذي يكتب له أجر عمله بالنية، فيغفر له بذلك. قال رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنَ امْرِئ تَكُونُ لَهُ صَلاَةً بِلَيْلٍ يَغْلُبُه عَلَيْهَا نَوْمٌ إِلاَّ كُتِبَ لَهُ أجْرُ صَلاَتِهِ، وَكَانَ نَوْمُهُ عَلَيْهَا صدَقَةً». وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بعض غزواته بالمدينة: «إن بالمدينة أقْواماً مَا سِرْتُم مَسِيرةً وَلَا قَطَعْتُم وَادِياً- أو كما قال- إِلَّا وَهُمْ مَعَكُم. قَالُوا: وَكَيْفَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: حَبَسَهُم الْعُذْرُ». وقال اللَّه عز وجل:
{لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 95]... الآية. فدل ذلك على استوائهم في ذلك مع أولي الضرر.
والقائم المشكور هو الذي يعمل العمل على سنته، والدائب المضيع هو الذي يعمل العمل على غير السنة، والساعي لغيره كثير، فترى الرجل يسعى في طلب الرزق، ولعله لا يتوقى فيه ولا يؤدي حق اللَّه منه فيصير لوارثه، فيفعل الخير منه، ويؤدي حق اللَّه فيه فيؤجر، وينعم فيما قد سعى له غيره فيه، فإنما للرجل من ماله ما لبِس فأبلى، أو أكل فأفنى، أو تصدق في طاعة اللَّه فأمضى اللَّه.
قال رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي، وَمَا لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلّاَ مَا تَصَدَّقْتَ فَأمْضَيْتَ، أوْ أكَلْتَ فَأفْنَيْتَ، أوْ لَبِسْتَ فَأبْلَيْتَ». وروي عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «أيُّكُم مَالُ وَارِثِهِ أحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ ماله؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا مِنّا أَحَدٌ إِلَّا ماله أحَبُّ إِلَيْهِ مِن مَال وَارِثِهِ. قَالَ: اعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ؟ قَالُوا: مَا نَعْلَمُ إِلَّا ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: مَا مِنْكُم مِن رَجُلٍ إِلّاَ مَالُ وَارِثِهِ أحَبُّ إِلَيْهِ مِن ماله، قَالًوا: كَيْفَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِنَّمَا مَالُ أحَدِكُم ما قدًّمَ، وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أخَّرَ»، ومعنى هذا الحديث: إِن ما ترك الرجل من مال لوارثه ولم ينتفع به في حياته، فكأن لم يكن له بمال؛ لأن ملكه إياه في حياته منتف عنه في الحقيقة، وإنما انتفى عنه في الحقيقة الانتفاع به، وباللَّه التوفيق.